[color:a68e=black][b][center][img]http://www.alimbaratur.com/All_Pages/Huqul_Stuff/Huqul_102/hkol.jpg[/img]
منـطق الطير
صاغ كبار الشعراء الفرس الكثير من المنظومات البديعة، أشهرها على الإطلاق "منطق الطير" لفريد الدين العطار. عاش صاحبها بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وألّف أعمالا عديدة قيل إن عددها مساو لسور القرآن الكريم، إلا أن هذا العدد يبقى رمزياً. وقد أحصى البحاثة المختصون الكثير من أسماء الكتب التي نُسبت إلى الشاعر النيسابوري، والثابت أن الأعمال الصحيحة النسب إليه تسعة كتب تُعتبر من قمم الأدب الروحاني العالمي. أعظم هذه الأعمال وأكثرها ذيوعا كتاب "منطق الطير"، وهو منظومة صوفية رمزية فاق عدد أبياتها الأربعة آلاف وستمئة بيت، محورها رحلة طويلة تقوم بها الطيور المختلفة تحت قيادة الهدهد بحثا عن سلطان لها هو السيمرغ. في هذه المنظومة التي تضج بالرموز، ترمز الطيور إلى سالكي الطريق إلى الحضرة الإلهية، والهدهد إلى شيخ المريدين، أما السيمرغ المنشود فهو "السلطان المطلق الدائم، ومائة ألف عالم مليئة بالجند والحشم، ليست إلا نملة على باب هذا السلطان الأعظم".
تحدّث القرآن الكريم عن تسبيح الكائنات لله في الكثير من آياته، وجاء في سورة النور (41): "ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون". وفي "تفسير الجلالين": "{ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض} ومن التسبيح صلاة {والطير} جمع طائر بين السماء والأرض {صافّات} حال باسطات أجنحتهنَّ {كل قد علم} الله {صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} فيه تغليب العاقل". في هذا المعنى، كتب الفيض الكاشاني في "تفسير الصافي": "قال بعض أهل المعرفة خلق الله الخلق ليسبّحوه فنطقهم بالتسبيح له والثناء عليه والسجود له". قبله، شرح ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى {والطير صافات} أي في حال طيرانها تسبّح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى {كل قد علم صلاته وتسبيحه}، أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل".
في "رسالة الطير"، طار ابن سينا مع الطير وأيقن أن الطريق مليء بالصيادين الذين أمسكوا بالطير في شباكهم، إلا أن الطيور التي تجردت من الأهواء حلقت عاليا وعبرت ثمانية جبال رغبة منها في الوصول إلى المليك الذي يحررها من شباك التجارب. وفي نص مختصر حمل العنوان نفسه، تحدث الغزالي عن أصناف من الطيور أرادت أن يكون لها ملك، واتفقت أن العنقاء وحدها دون سواها تصلح لهذا الشأن. وقد استولى سلطان الشوق على هذه الطيور، رغم نداء الغيب الذي صعد من وراء الحجب محذراً: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" (البقرة، 195)، فتركوا الأوكار وعبروا الجبال والبحار، وتعرّضوا لأقسى المحن، "فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد، ومات من كان من بلاد البرد في بلاد الحر، وتصرفت فيهم الصواعق، وتحكمت عليهم العواصف، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك". قضى بعض من الطيور في طريقه إلى الملك فوقع أجرهم على الخالق، وهم أحياء "قتلوا في سبيل الله" (آل عمران 169). وحظي الذين وصلوا إلى الجزيرة المنشودة بكمال العناية، "فاطمأنوا وسكنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التكمين، وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين".
القريب والبعيد
انطلق فريد الدين العطار، على ما يبدو، من "رسالة الطير" التي وضعها الغزالي، وصاغ ملحمته الشعرية الطويلة التي أضحت دالة على اسم مؤلفها. خرجت هذه الملحمة الفريدة تحت عنوان "منطق الطير"، وقد استعار العطار هذا التعبير من الآية السادسة عشرة من سورة النمل: "وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين". ونجد في هذه السورة القرآنية حديثا عن نملة تنطق وتقول: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" (18). كذلك، يتحدث الهدهد في السورة نفسها عن ملكة سبأ في كلامه الى النبي سليمان: "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين" (22). وفقا للتقليد الأدبي الفارسي، استهل العطار كتابه بالمناجاة ومدح الخلفاء الأربعة بعدما مدح الرسول، وفي هذا المدح إشارة واضحة إلى انتمائه إلى المذهب السني. ثم ذمّ الشاعر تعصب أهل المذاهب الإسلامية وختم مقدمته بالقول في شفاعة النبي من أجل أمته. جاءت منظومة "منطق الطير" في قالب قصصي محكم يتألف من خمس وأربعين مقالة على لسان الطيور تتخللها مجموعة من مئة وإحدى وثمانين حكاية تختلف طولا وقصرا. في هذه القصص التي توزّعت تبعا للمسائل التي تثيرها حوارات الطيور، نلتقي بالكثير من الأنبياء والأولياء، ومنهم إبرهيم، يعقوب، يوسف، موسى، داوود، سليمان، عيسى، الحلاج، رابعة العدوية، ابرهيم أدهم، مجنون ليلى، هيبوقراطس الذي عُرف باسم بقراط، أرسطاطاليس وتلميذه الإسكندر الذي مات في طريق الدين.
عرف "منطق الطير" شهرة واسعة تخطت بسرعة حدود العالم الفارسي، ونُقل إلى الأردية والتكية قبل أن يُترجم إلى الفرنسية والأسوجية والانكليزية. وقد وصل هذا الأثر في مرحلة متأخرة إلى العالم العربي في ترجمة متقنة من وضع بديع محمد جمعة صدرت في القاهرة عام 1975 وفي بيروت عام 1979. تبدأ الحكاية باجتماع الطيور التي رغبت في اختيار ملك عليها، وينبري الهدهد ليخبرها أن ليس لها من ملك سوى ذلك المقيم في جبل قاف: "اسمه السيمرغ ملك الطيور، وهو منا قريب، ونحن منه جد بعيدين، مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع، ولا يكف لسان عن ترداد اسمه. تكثفه مئات الألوف من الحجب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد من كلا العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه. إنه الملك المطلق، المستغرق دائما في كمال العز، ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد؟ وكيف يصل العلم والعقل إلى حيث يوجد؟ لا طريق إليه، حتى وإن كثر المشتاقون من الخلق إليه، وإذا كان وصفه بعيداً عن فعل الروح الطاهرة نفسها، فليس للعقل قدرة على ادراكه، فلا جرم أن يحار العقل، كما أن الروح تحار عن إدراك صفاته، وهكذا تعمى الأبصار".
يشدد الهدهد الحكيم على صعوبة الوصول إلى السيمرغ، وينذر الطيور بأنها ستعرف مشقات قاسية ومكابدات عسيرة قبل الوصول إلى الجمال المطلق والحقيقة التي لا زيف فيها. عند سماعها حديث الهدهد عن أهوال الرحلة، تحاول الطيور أن تنسحب، وينبري كل من البلبل والببغاء والطاووس والبطة والحجلة والهما والصقر ومالك الحزين والبومة والصعوة في ذكر أعذارها للعدول عن المضي قدما في هذا الطريق، وتجتمع الأصوات كلها في المقالة الثالثة عشرة لتسأل الهدهد: "يا من له السبق في سلوك الطريق، ويا من بلغ أوج العظمة والتوفيق، نحن حفنة من الضعفاء والعجزة، وقد عدمنا الريش والجناح والجسد والمقدرة، أنّى لنا أن نصل إلى السيمرغ ذي القدر الرفيع؟". ويجيبهم الطائر الحكيم: "أيها المساكين، إلام هذا الجهل؟ حقاً لا يستقيم العشق وسوء النية. كل من له في الطريق عين مبصرة قد أقبل فرحاً وللروح ناثراً. ولتعلم أنه عندما رفع السيمرغ النقاب، بدا وجهه كالشمس مشرقا، وألقى بمئات الألوف من ظلال الأرض، وهنا أدرك البصر ظلاً طاهراً، وما أن نثر ظله على العالم، حتى كانت تلك الطيور العديدة التي تبدو كل لحظة، فصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظلّه".
الأودية السبعة
تختار الطيور الهدهد مرشدا لها وتطرح عليه السؤال تلو السؤال حول الرحلة العرفانية وأحوالها، وتبدو إجابات الطير العارف أشبه بالإرشادات الروحية في التجرد من كل ما هو دنيوي ومادي. وتأخذ هذه الإرشادات طابعا حيا عبر قصص كثيرة تتحدث عمن ذاق حلاوة الوصال وبات شهيدا للعشق الإلهي. يبلغ هذا الإرشاد الذروة في نهاية المقالة الثامنة والثلاثين حيث يذكر الشاعر على لسان طيره الأودية السبعة التي تفصل بين الطيور والأعتاب العلية، وهي وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء عن الصفة، وادي التوحيد الظاهر، وادي الحيرة الصعب، ووادي الفقر والفناء. "وبعد ذلك لن يكون لك سلوك بالطريق، فإن تدرك نهايته، يتلاش مسيرك، وإن تكن لك قطرة ماء، فإنها تصبح بحراً خضماً".
أصغت الطيور إلى الهدهد ومضت في المسير والطيران نحو ملكها، وقضى عدد كبير منها في هذا الطريق الشاق، منها من غرق ومنها من أسلم الروح عطشاً، ومنها من اختنق حراً، ومنها من أحرقه وهج الشمس. وتوقف الكثير ممن دهمه التخلف والهجران في طريقه، فلزم كل منهم مكانه وكفّ عن الطلب. ولم ينجح في الوصول إلى الجبل المنشود إلا ثلاثون طائراً فقدوا ريشهم وباتوا "محطمي القلوب، فاقدي الأرواح، سقيمي الأجساد". ولهذا الرقم في "منطق الطير" دلالة عميقة، فهو بلغة النص الفارسي "سي مورغ"، واسم الملك "سيمرغ"، وفي هذا الجناس تعبير عن مبدأ وحدة الشهود الذي تقوم عليه تحفة العطار.
".[/center][/b][/color]
منـطق الطير
صاغ كبار الشعراء الفرس الكثير من المنظومات البديعة، أشهرها على الإطلاق "منطق الطير" لفريد الدين العطار. عاش صاحبها بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وألّف أعمالا عديدة قيل إن عددها مساو لسور القرآن الكريم، إلا أن هذا العدد يبقى رمزياً. وقد أحصى البحاثة المختصون الكثير من أسماء الكتب التي نُسبت إلى الشاعر النيسابوري، والثابت أن الأعمال الصحيحة النسب إليه تسعة كتب تُعتبر من قمم الأدب الروحاني العالمي. أعظم هذه الأعمال وأكثرها ذيوعا كتاب "منطق الطير"، وهو منظومة صوفية رمزية فاق عدد أبياتها الأربعة آلاف وستمئة بيت، محورها رحلة طويلة تقوم بها الطيور المختلفة تحت قيادة الهدهد بحثا عن سلطان لها هو السيمرغ. في هذه المنظومة التي تضج بالرموز، ترمز الطيور إلى سالكي الطريق إلى الحضرة الإلهية، والهدهد إلى شيخ المريدين، أما السيمرغ المنشود فهو "السلطان المطلق الدائم، ومائة ألف عالم مليئة بالجند والحشم، ليست إلا نملة على باب هذا السلطان الأعظم".
تحدّث القرآن الكريم عن تسبيح الكائنات لله في الكثير من آياته، وجاء في سورة النور (41): "ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون". وفي "تفسير الجلالين": "{ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض} ومن التسبيح صلاة {والطير} جمع طائر بين السماء والأرض {صافّات} حال باسطات أجنحتهنَّ {كل قد علم} الله {صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون} فيه تغليب العاقل". في هذا المعنى، كتب الفيض الكاشاني في "تفسير الصافي": "قال بعض أهل المعرفة خلق الله الخلق ليسبّحوه فنطقهم بالتسبيح له والثناء عليه والسجود له". قبله، شرح ابن كثير في تفسيره: "وقوله تعالى {والطير صافات} أي في حال طيرانها تسبّح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة، ولهذا قال تعالى {كل قد علم صلاته وتسبيحه}، أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل".
في "رسالة الطير"، طار ابن سينا مع الطير وأيقن أن الطريق مليء بالصيادين الذين أمسكوا بالطير في شباكهم، إلا أن الطيور التي تجردت من الأهواء حلقت عاليا وعبرت ثمانية جبال رغبة منها في الوصول إلى المليك الذي يحررها من شباك التجارب. وفي نص مختصر حمل العنوان نفسه، تحدث الغزالي عن أصناف من الطيور أرادت أن يكون لها ملك، واتفقت أن العنقاء وحدها دون سواها تصلح لهذا الشأن. وقد استولى سلطان الشوق على هذه الطيور، رغم نداء الغيب الذي صعد من وراء الحجب محذراً: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" (البقرة، 195)، فتركوا الأوكار وعبروا الجبال والبحار، وتعرّضوا لأقسى المحن، "فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد، ومات من كان من بلاد البرد في بلاد الحر، وتصرفت فيهم الصواعق، وتحكمت عليهم العواصف، حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك". قضى بعض من الطيور في طريقه إلى الملك فوقع أجرهم على الخالق، وهم أحياء "قتلوا في سبيل الله" (آل عمران 169). وحظي الذين وصلوا إلى الجزيرة المنشودة بكمال العناية، "فاطمأنوا وسكنوا واستقبلوا حقائق اليقين بدقائق التكمين، وفارقوا بدوام الطمأنينة إمكان التلوين".
القريب والبعيد
انطلق فريد الدين العطار، على ما يبدو، من "رسالة الطير" التي وضعها الغزالي، وصاغ ملحمته الشعرية الطويلة التي أضحت دالة على اسم مؤلفها. خرجت هذه الملحمة الفريدة تحت عنوان "منطق الطير"، وقد استعار العطار هذا التعبير من الآية السادسة عشرة من سورة النمل: "وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين". ونجد في هذه السورة القرآنية حديثا عن نملة تنطق وتقول: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" (18). كذلك، يتحدث الهدهد في السورة نفسها عن ملكة سبأ في كلامه الى النبي سليمان: "أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين" (22). وفقا للتقليد الأدبي الفارسي، استهل العطار كتابه بالمناجاة ومدح الخلفاء الأربعة بعدما مدح الرسول، وفي هذا المدح إشارة واضحة إلى انتمائه إلى المذهب السني. ثم ذمّ الشاعر تعصب أهل المذاهب الإسلامية وختم مقدمته بالقول في شفاعة النبي من أجل أمته. جاءت منظومة "منطق الطير" في قالب قصصي محكم يتألف من خمس وأربعين مقالة على لسان الطيور تتخللها مجموعة من مئة وإحدى وثمانين حكاية تختلف طولا وقصرا. في هذه القصص التي توزّعت تبعا للمسائل التي تثيرها حوارات الطيور، نلتقي بالكثير من الأنبياء والأولياء، ومنهم إبرهيم، يعقوب، يوسف، موسى، داوود، سليمان، عيسى، الحلاج، رابعة العدوية، ابرهيم أدهم، مجنون ليلى، هيبوقراطس الذي عُرف باسم بقراط، أرسطاطاليس وتلميذه الإسكندر الذي مات في طريق الدين.
عرف "منطق الطير" شهرة واسعة تخطت بسرعة حدود العالم الفارسي، ونُقل إلى الأردية والتكية قبل أن يُترجم إلى الفرنسية والأسوجية والانكليزية. وقد وصل هذا الأثر في مرحلة متأخرة إلى العالم العربي في ترجمة متقنة من وضع بديع محمد جمعة صدرت في القاهرة عام 1975 وفي بيروت عام 1979. تبدأ الحكاية باجتماع الطيور التي رغبت في اختيار ملك عليها، وينبري الهدهد ليخبرها أن ليس لها من ملك سوى ذلك المقيم في جبل قاف: "اسمه السيمرغ ملك الطيور، وهو منا قريب، ونحن منه جد بعيدين، مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع، ولا يكف لسان عن ترداد اسمه. تكثفه مئات الألوف من الحجب، بعضها من نور، وبعضها من ظلمة، وليس لفرد من كلا العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه. إنه الملك المطلق، المستغرق دائما في كمال العز، ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد؟ وكيف يصل العلم والعقل إلى حيث يوجد؟ لا طريق إليه، حتى وإن كثر المشتاقون من الخلق إليه، وإذا كان وصفه بعيداً عن فعل الروح الطاهرة نفسها، فليس للعقل قدرة على ادراكه، فلا جرم أن يحار العقل، كما أن الروح تحار عن إدراك صفاته، وهكذا تعمى الأبصار".
يشدد الهدهد الحكيم على صعوبة الوصول إلى السيمرغ، وينذر الطيور بأنها ستعرف مشقات قاسية ومكابدات عسيرة قبل الوصول إلى الجمال المطلق والحقيقة التي لا زيف فيها. عند سماعها حديث الهدهد عن أهوال الرحلة، تحاول الطيور أن تنسحب، وينبري كل من البلبل والببغاء والطاووس والبطة والحجلة والهما والصقر ومالك الحزين والبومة والصعوة في ذكر أعذارها للعدول عن المضي قدما في هذا الطريق، وتجتمع الأصوات كلها في المقالة الثالثة عشرة لتسأل الهدهد: "يا من له السبق في سلوك الطريق، ويا من بلغ أوج العظمة والتوفيق، نحن حفنة من الضعفاء والعجزة، وقد عدمنا الريش والجناح والجسد والمقدرة، أنّى لنا أن نصل إلى السيمرغ ذي القدر الرفيع؟". ويجيبهم الطائر الحكيم: "أيها المساكين، إلام هذا الجهل؟ حقاً لا يستقيم العشق وسوء النية. كل من له في الطريق عين مبصرة قد أقبل فرحاً وللروح ناثراً. ولتعلم أنه عندما رفع السيمرغ النقاب، بدا وجهه كالشمس مشرقا، وألقى بمئات الألوف من ظلال الأرض، وهنا أدرك البصر ظلاً طاهراً، وما أن نثر ظله على العالم، حتى كانت تلك الطيور العديدة التي تبدو كل لحظة، فصورة طير العالم جميعها ما هي إلا ظلّه".
الأودية السبعة
تختار الطيور الهدهد مرشدا لها وتطرح عليه السؤال تلو السؤال حول الرحلة العرفانية وأحوالها، وتبدو إجابات الطير العارف أشبه بالإرشادات الروحية في التجرد من كل ما هو دنيوي ومادي. وتأخذ هذه الإرشادات طابعا حيا عبر قصص كثيرة تتحدث عمن ذاق حلاوة الوصال وبات شهيدا للعشق الإلهي. يبلغ هذا الإرشاد الذروة في نهاية المقالة الثامنة والثلاثين حيث يذكر الشاعر على لسان طيره الأودية السبعة التي تفصل بين الطيور والأعتاب العلية، وهي وادي الطلب، وادي العشق، وادي المعرفة، وادي الاستغناء عن الصفة، وادي التوحيد الظاهر، وادي الحيرة الصعب، ووادي الفقر والفناء. "وبعد ذلك لن يكون لك سلوك بالطريق، فإن تدرك نهايته، يتلاش مسيرك، وإن تكن لك قطرة ماء، فإنها تصبح بحراً خضماً".
أصغت الطيور إلى الهدهد ومضت في المسير والطيران نحو ملكها، وقضى عدد كبير منها في هذا الطريق الشاق، منها من غرق ومنها من أسلم الروح عطشاً، ومنها من اختنق حراً، ومنها من أحرقه وهج الشمس. وتوقف الكثير ممن دهمه التخلف والهجران في طريقه، فلزم كل منهم مكانه وكفّ عن الطلب. ولم ينجح في الوصول إلى الجبل المنشود إلا ثلاثون طائراً فقدوا ريشهم وباتوا "محطمي القلوب، فاقدي الأرواح، سقيمي الأجساد". ولهذا الرقم في "منطق الطير" دلالة عميقة، فهو بلغة النص الفارسي "سي مورغ"، واسم الملك "سيمرغ"، وفي هذا الجناس تعبير عن مبدأ وحدة الشهود الذي تقوم عليه تحفة العطار.
".[/center][/b][/color]